الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **
بسم اللّه الرحمن الرحيم. أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقوله {تلك آيات الكتاب} أي هذه آيات الكتاب، وهو القرآن المبين أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}، وذلك لأنه لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان"فكمل من كل الوجوه؛ ولهذا قال تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن جرير يقول تعالى: اذكر لقومك يا محمد في قصصك عليهم من قصة يوسف، إذ قال لأبيه - وأبوه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام - كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: الإسلام إذا فقهوا) يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيماً زائداً، بحيث يخرون له ساجدين إجلالاً واحتراماً، فخشي يعقوب عليه السلام أن يحدث بهذا المنام أحداً من إخوته، فيحسدونه على ذلك، فيبغون له الغوائل حسداً منهم له، ولهذا قال له: {لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا} أي يحتالوا لك حيلة يردونك فيها، ولهذا ثبتت السنة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: السنن عن معاوية بن حيدة القشيري"ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر، كما ورد في حديث: يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لولده يوسف: إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك {كذلك يجتبيك ربك} أي يختارك ويصطفيك لنبوته، {ويعلمك من تأويل الأحاديث} قال مجاهد: يعني تعبير الرؤيا، {ويتم نعمته عليك} أي بإرسالك والإيحاء إليك، ولهذا قال: {كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم} وهو الخليل، {وإسحاق} ولده وهو الذبيح في قول، وليس بالرجيح {إن ربك عليم حكيم} أي هو أعلم حيث يجعل رسالته. يقول تعالى: لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته {آيات} أي عبرة وموعظة {للسائلين} عن ذلك، فإنه خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه، {إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا} أي حلفوا بما يظنون واللّه ليوسف وأخوه، يعنون بنيامين، وكان شقيقه لأمه {أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة} أي جماعة، فكيف أحب ذينك الاثنين أكثر من الجماعة؟ {إن أبانا لفي ضلال مبين} يعنون في تقديمهما علينا، ومحبته إياهما أكثر منا، واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف، وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك؛ ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك، وفي هذا نظر ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل، ولم يذكروا سوى قوله تعالى: {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم} يقولون: هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم، أعدموه من وجه أبيكم، ليخلوا لكم وحدكم، إما بأن تقتلوه، أو أن تلقوه في أرض من الأراضي تستريحوا منه وتخلوا أنتم بأبيكم، {وتكونوا من بعده قوما صالحين}، فأضمروا التوبة قبل الذنب {قال قائل منهم}، قال قتادة: وكان أكبرهم واسمه روبيل، وقال السدي: الذي قال ذلك يهوذا، وقال مجاهد: هو شمعون {لا تقتلوا يوسف} أي لا تصلوا في عداوته وبغضه إلى قتله، ولم يكن لهم سبيل إلى قتله، لأن اللّه تعالى كان يريد منه أمراً لا بد من إمضائه وإتمامه، من الإيحاء إليه بالنبوة، ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها، فصرفهم اللّه عنه بمقالة روبيل فيه، وإشارته عليهم بأن يلقوه {في غيابة الجب} وهو أسفله، قال قتادة: وهي بئر بيت المقدس، {يلتقطه بعض السيارة} أي المارة من المسافرين فتستريحوا منه بهذا ولا حاجة إلى قتله، {إن كنتم فاعلين} أي إن كنتم عازمين على ما تقولون، قال محمد بن إسحاق: لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له، وليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه، مع مكانه من الّله ممن أحبه طفلاً صغيراً، وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه، يغفر الّله لهم وهو أرحم الراحمين، فقد احتملوا أمراً عظيماً. لما تواطؤوا على أخذه وطرحه في البئر كما أشار به عليهم أخوهم الكبير روبيل جاءوا أباهم يعقوب عليه السلام فقالوا: ما بالك {لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون}؟ وهذه توطئة ودعوى وهم يريدون خلاف ذلك لما له في قلوبهم من الحسد لحب أبيه له، {أرسله معنا} أي ابعثه معنا {غدا نرتع ونلعب}، وقرأ بعضهم بالياء، {يرتع ويلعب}، قال ابن عباس: يسعى وينشط، {وإنا له لحافظون} يقولون: ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك. يقول تعالى مخبراً عن نبيّه يعقوب أنه قال لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء: {إني ليحزنني أن تذهبوا به} أي يشق عليَّ مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع، وذلك لفرط محبته له لما يتوسم فيه من الخير العظيم، وشمائل النبوة، والكمال في الخلق والخلق صلوات اللّه وسلامه عليه، وقوله: {وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون}، يقول: وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم، فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون، فأخذوا من فمه هذه الكلمة وجعلوها عذرهم فيما فعلوه، وقالوا مجيبين له عنها في الساعة الراهنة {لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون} يقولون: لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا ونحن جماعة، إنا إذاً لهالكون عاجزون.
|